اختلفت الروايات عنه صلى الله عليه وسلم في نوع نسكه، فجاء أنه حج مفردًا، وجاء أنه تمتع، وثبت في رواية الأكثر أنه حج قارنًا. فدلّ قوله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» [مسلم (1218)] على أنه لم يعتمر عمرة كاملة منفصلة عن حجه بطوافها وسعيها والتقصير بعدها والتحلل الكامل منها.
فكيف إذن يجمع بينها وبين رواية من روى أنه صلى الله عليه وسلم حج مفردًا، ورواية عمران بن حصين رضي الله عنه وغيره: «تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه» [مسلم (1226)]؟
فبعض أهل العلم ممن هاب توهيم الرواة قال بتعدد القصة. ولا يمكن حمل الروايات في نوع نسكه صلى الله عليه وسلم على تعدد القصة، بمعنى: أنه حج مرة متمتعًا، ومرة قارنًا، ومرة مفردًا؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا مرة واحدة بعد فرض الحج إجماعًا.
وهناك من جَرُؤَ وقال: «لا مانع من أن يخطئ الثقة»، والأمر كذلك عمومًا، فالراوي مهما بلغ من الحفظ والضبط والإتقان قد يخطئ، ويتطرق إليه السهو والغفلة والنسيان، فهو ليس بمعصوم.
أما هنا فقد جمع بعض أهل العلم بين الروايات المختلفة في أنواع نسكه صلى الله عليه وسلم، بأن من قال: «إنه صلى الله عليه وسلم كان مفرِدًا» نظر إلى إحرامه أولًا، فهمْ لما خرجوا من المدينة ما كانوا يعرفون إلا الحج، ما كانوا يعرفون العمرة مع الحج، ثم أُمر بالقران، فقيل له صلى الله عليه وسلم: «صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة» [البخاري (1534)]، أو أنه نظر إلى صورة فعله صلى الله عليه وسلم، إذْ لا فرق بين صورة حج القارن وصورة حج المفرد إلا في الهدي.
ومن قال: «إنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا» فقد حكى الواقع، وهذه رواية الأكثر.
ومن قال: «إنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعًا» نظر إلى المعنى الأعم للتمتع، وهو الترفه والإتيان بالنسكين في سفرةٍ واحدة، ولذا فقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] يشمل النسكين: التمتع الخاص والقران، فالمعنى الأعم للتمتع يشمل القران والتمتع الخاص معًا.