أسباب النزول بالنسبة للقرآن كأسباب الورود بالنسبة للحديث. فإذا قيل: لا داعي لمعرفة السبب؛ لأن الذي يهمنا النازل، وهو الذي نتعبد به، وكون الآية نزلت في قصة فلان أو فلان، أو الحديث ورد في شأن فلان أو فلان لا يهمنا. نقول: لأسباب النزول فوائد كثيرة، لأجلها اعتنى بها العلماء عناية فائقة، وصنفوا فيها المؤلفات، ومن فوائد معرفتها:
أولًا: أن معرفة السبب مما يورث العلم بالمسبب، فكم من آية نقرؤها ولا ندري ما مراد الله فيها، ولا يتضح لنا وجه ارتباطها بما قبلها وما بعدها، ثم إذا اطلعنا على سبب نزولها زال الإشكال، والعرب يقولون: (إذا عرف السبب بطل العجب).
ثانيًا: أن معرفة السبب قد يُحتاج إليه في قصر الحكم العام على مدلول السبب، فالصحابة -رضوان الله عليهم- استشكلوا بعض الآيات، فلما بيّن لهم النبي –صلى الله عليه وسلم- السبب زال عنهم الإشكال، فقد استشكلوا ما جاء في آخر البقرة، واستشكلوا ما جاء في سورة الأنعام: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، قالوا: «أيُّنا لم يظلم نفسه؟» [البخاري: 6937]، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وفي بعض الروايات: «ألم تسمعوا إلى ما قال العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}؟» [المسند: 3589]، وبهذا زال الإشكال.
ومن المعلوم عند أهل العلم قاطبة، ونُقل فيه الإجماع: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن قد يُلجأ إلى خصوص السبب إذا كان العموم معارَضًا بما هو أقوى منه، مثال ذلك: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، العموم يدل على أن من صلى إلى أي جهة صحت صلاته، والأدلة دلت على أن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة، فإذا عرفنا سبب النزول، وهو أن الصحابة اجتهدوا بالصلاة، فصلَّوْا إلى جهات متعددة، فنزل قوله –عز وجل-: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}، عرفنا أن الآية مقصورة على سببها، وهو مَن خَفِيت عليه جهة القبلة واجتهد، ثم بان له أنه صلى إلى غير القبلة.
ومثال ذلك من الحديث: قوله –صلى الله عليه وسلم-: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» [البخاري: 1117]، مع حديث: «من صلى قاعدًا فله نصف أجر القائم» [البخاري: 1115] فالحديث الأول: يدل على أن الصلاة لا تصح من القاعد المستطيع للقيام مطلقًا، والثاني: يدل على أن الصلاة تصح من القاعد المستطيع مطلقًا، فهذا تعارض تام، لكن إذا نظرنا في سبب ورود الحديث الثاني زال الإشكال، وهو أن النبي –صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد والمدينة مُحِمَّة - يعني: فيها حمّى - ووجدهم يصلون من قعود، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «صلاة القاعد نصف صلاة القائم، فتجشم الناس الصلاة قيامًا» [المسند: 12395]، ومنه أخذ أهل العلم: أن صلاة النافلة تصح من قعود ولو كان قادرًا مستطيعًا، وعرفنا أنها نافلة من أنهم كانوا يصلون قبل حضور النبي –صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم لا يصلون الفريضة حتى يأتي –صلى الله عليه وسلم-، كما دل الخبر على أنهم يستطيعون القيام، فمن صلى قاعدًا وهو قادر على القيام في الفريضة فصلاته باطلة لقوله –عليه السلام-: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا»، ومن صلى قاعدًا في الفريضة أو النافلة وهو عاجز فصلاته صحيحة وأجره كامل، لقوله –عليه السلام-: «فإن لم تستطع فقاعدًا»، ومن صلى النافلة من قعود وهو قادر على القيام فصلاته صحيحة لكن أجره على النصف، فهذه من فوائد معرفة سبب النزول.
ثالثًا: يقول أهل العلم: (دخول السبب في النص قطعي)، مثال ذلك: لو جاء طالب إلى شيخ من الشيوخ وقال: (إن الكتاب الفلاني المقرر في الدرس الفلاني لا يوجد في المكتبات، والطلاب ظروفهم لا تساعدهم على أن يبذلوا الأسباب المكلِفة لإحضار الكتاب أو تصويره)، فقام الشيخ بطريقة ما بتوفير الكتاب بعدد الطلاب، ثم أعطى جميع الطلاب نسخة إلا هذا الطالب الذي جاء إليه، فمثل هذا لا ينبغي؛ لأن أولى الناس بالكتاب هذا الطالب المتسبب في إيجاد الكتاب.
فهذه من فوائد معرفة أسباب النزول بالنسبة للقرآن، وفوائد أسباب الورود بالنسبة للحديث.