ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه أحرم بعد صلاةِ ركعتين هما صلاة الظهر، صلاة فريضة، وثبت أنه قيل له -عليه الصلاة والسلام-: «صلِّ في هذا الوادي المبارَك» [البخاري: 1534]، فأخذ من هذا جمهور أهل العلم استحباب أن يكون الإحرام بعد صلاة سواء كانت نافلة أو فريضة، فإن كانت فريضة فطابق فعله -عليه الصلاة والسلام-، وإن كانت نافلة طابقت ما أُمِرَ به أن يصلي في هذا الوادي المبارك، فاستحب أهل العلم صلاة ركعتين قبل الإحرام -كما قلنا- إن كانت الفريضة فبها ونعمتْ، وإلا صلى ركعتين نافلةً ليُحرم بعدهما؛ امتثالًا لقول: «صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة»، المقصود أن صلاة ركعتين قبل الإحرام من أجل الإحرام سنة عند أكثر أهل العلم، وبعضهم قال: لا صلاة خاصة للإحرام وإنما وقع اتفاقًا أنه أحرم بعد الفريضة، فمن وافق وقت الفريضة صلَّى وإلا أحرم بدون صلاة، وإن صلى -عند هؤلاء- من أجل الوضوء ونواها سنة الوضوء حصل له أنه أحرم بعد صلاة، والصلاة ليستْ من أجل الإحرام وإنما هي من أجل الوضوء.
وفي السؤال يقول: (وصلنا الميقات الساعة التاسعة صباحًا -يعني في وقت صلاة الضحى- هل يُسَن أن نصلي ركعتين عند الإحرام -يعني للإحرام- أو لا بد أن تكون صلاة فرض -كما حصل له عليه الصلاة والسلام-)؟ إذا صليتم هذه الصلاة بنية الضحى بها ونعمتْ، ويكون حصل الإحرام بعد صلاة، وهي صلاة الضحى، وهي مشروعة بأدلة كثيرة، وهي سنة عند عامة أهل العلم، بل سنة مؤكدة «ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» [مسلم: 720]، و«أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث –منها-: ركعتي الضحى» [البخاري: 1981]، فإذا صلى الركعتين بنية الضحى حصل له أن أحرم بعد ركعتين، وإن نوى بذلك ركعتي الإحرام فلا بأس؛ لقول جمهور أهل العلم أنهما سنة للإحرام.
فمن أراد العمرة أو الحج يأتي إلى الميقات ويغتسل وهذا الأصل أن يغتسل، والاغتسال سنة ليس بواجب، فلو توضأ أجزأه ذلك، ثم يصلي الركعتين، ثم يلبِّي، فقد جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه لبَّى بعد الركعتين في المسجد [أبو داود: 1770]، أما لبس الإحرام فما يَفرق بأن يكون قبل الصلاة أو بعدها، المقصود أنه يلبس، لكن من باب أنه ينوي الإحرام مباشرة بعد الركعتين في المسجد كما فعل -عليه الصلاة والسلام- فإنه يلبس الإحرام قبل الصلاة، ولا مانع أن يلبس قبل ثم يصلي الركعتين، أو يصلي الركعتين ثم يلبس، لكن كونه يلبس قبل أولى؛ ليوالي بين الصلاة ونية الدخول في النسك، فيقول: لبيك -ما يريد من النسك- (لبيك عمرةً)، (لبيك حجًا)، (لبيك حجًا وعمرةً)، إلى آخره.
ونُقل عنه -عليه الصلاة والسلام- مِن قِبل بعض الصحابة وهو في الصحيح أنه لبَّى حينما استقلَّتْ به راحلته [البخاري: 166]، فيُلبِّي الآن إذا ركب السيارة، وثبت عنه أنه لبَّى عند الشجرة [مسلم: 1186]، وأنه لبَّى في البيداء [البخاري: 1545]، وكل هذا صحيح، والجمع بينها أن كل واحد من الرواة روى ما رأى، فمن رآه يلبِّي في المسجد قال: إنه لبَّى في المسجد، ومن رآه يلبي حينما استقلَّتْ به راحلته نقل ذلك ولم يطَّلع على ما قبله، ومن رآه لبَّى عند الشجرة نقل ذلك ولم يطَّلع على ما قبله، ومن رآه لبَّى في البيداء قال: إنه لبَّى حينما وصل البيداء، لكن لم يَطَّلع على ما قبله، فتسن التلبية في هذه المواضع كلها: حينما يصلي وينوي الدخول في النسك، وتُسَن التلبية إذا استقلَّتْ به راحلته، فإذا ركب السيارة لبَّى، وإذا وصل إلى البيداء، وما أشبه ذلك، وابن عمر يقول: "بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها" [مسلم: 1186]، لكن هذا –رضي الله عنه- ينفي؛ لأنه روى ما قبل ذلك؛ لأنه فهم أن الذي قال: لبَّى حينما وصل البيداء، يظن أنه لا تجوز التلبية قبل ذلك، لا، بل كلٌّ نقل ما رأى، فالتلبية مشروعة من بعد الصلاة في المسجد، وإذا استقلَّتْ به راحلته، وبعد ذلك يُكرر هذه التلبية ويُرفع بها الصوت كما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- وعن صحابته.
وأما عقد الإحرام فهو أول ما ينوي، حينما يقول: (لبيك عمرةً) أو (لبيك حجًا) دخل في الإحرام، فهو نية الدخول في النسك.