جاء في الحديث الصحيح: «إن الله طيِّب لا يَقبل إلا طيِّبًا» [مسلم: 1015]، فمثل هذه الأموال الخبيثة إذا تمَّت التوبة بشروطها؛ لأن بعض الناس يقول: إنه يتخلَّص من هذه الأموال وهو مستمر في معاملاته المحرَّمة! نقول: التخلُّص إنما هو من تمام التوبة، ولا يصح التخلُّص ولا يكفي مع تخلُّف شروط التوبة، فإذا تاب الإنسان توبة نصوحًا بشروطها المعروفة عند أهل العلم: ندم على ما مضى، وعزم على ألَّا يعود، وأقلع عن الذنب فورًا، وأخلص لله في ذلك، فإنه يتخلَّص، وهذا من تمام التوبة؛ لأن بعض الناس مستمر، فأمواله تعمل في عقود ومعاملات محرَّمة مِن ربًا وغيره، ويقول: (الحمد لله نتخلَّص)! نقول: يا أخي التخلُّص إنما هو من تمام التوبة، فعليك أن تُقلع فورًا، وتعزم على ألَّا تعود، وتندم على ما فات، ثم بعد ذلك إذا كان لديك مال من الربا فإنه لا يجوز لك حينئذٍ إلا رأس المال.
ورأس المال يختلف أهل العلم هل المراد به: وقت الدخول في المعاملة الربوية، أو وقت التوبة، لكن المقصود أنه إذا جاءته موعظة من ربه فعليه أن يُقلع فورًا، لكن {وَمَنْ عَادَ} [البقرة: 275]؟ جاء الوعيد الشديد بالنسبة له، فإذا تاب توبة نصوحًا فله رأس ماله، وهل المراد رأس المال وقت الدخول في المعاملة، أو وقت التوبة؟
الأكثر على أنه وقت الدخول في المعاملة، فمثلًا: شخص بدأ التجارة بألف ريال، وزاول الأعمال المحرَّمة من الربا وغير الربا، وبعد سنة صار هذا الألف عشرة آلاف، أو استمر عشرين سنة وصار مليونًا، ثم بعد ذلك جاءته موعظة من ربه فانتهى، وتاب توبة نصوحًا بشروطها، فما الذي له من هذه الأموال؟ هل له الألف فقط، ويتخلَّص من الباقي؟ أو له وقت التوبة مليون، وإذا كان بقي شيء من أموال الربا عند الناس فلا يجوز له أن يستلم منها شيئًا؟ الآية مُحتمِلة للأمرين، والأكثر على أنه له رأس ماله وقت دخوله في المعاملة، والمسألة مسألة واقعية مِن شخصٍ دخل التجارة قبل سبعين سنة بعشرين ريالًا، وتاب عن عشرين مليارًا، ماذا نقول: (لك عشرون ريالًا وتخلَّص من الباقي)، أو (لك العشرون مليارًا التي وقعت في يدك الآن، والذي في ذمم الناس ما يجوز أن تأخذ منه شيئًا)؟ فهل ممكن أن يتوب مثل هذا إذا قيل له: (ما لك إلا عشرون ريالًا)، يعني: مِن أغنى الناس إلى أفقر الناس؟ الآية مُحتمِلة، والمترجِّح عندي أنه له رأس ماله وقت التوبة، {فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]، والتوبة تَهدِم ما كان قبلها، وتجُبُّ ما كان قبلها، وفي هذا أعظم عونٍ على التوبة؛ لأنه إذا قيل له: (ما لك إلا عشرون ريالًا من العشرين مليارًا) فلن يتوب، وهذه مسألة واقعية، فالإشكال قائم لو قيل له بقول الجمهور، وأن (لك العشرون ريالًا فقط)، مع أن الآية مُحتمِلة، ورأيتُ في كلام شيخ الإسلام ما يُؤيِّد هذا. والله -جل وعلا- أوجب التوبة على عباده، وحثَّهم عليها، وفرح بها، وهو -جل وعلا- أفرح بتوبة عبده من الذي فقد دابته وعليها طعامه وشرابه حتى إذا كاد أن يهلك وجدها، وأخطأ من شدة الفرح، فقال: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك» [مسلم: 2747]، فالله -جل وعلا- يفرح بتوبة التائب، فكيف يُقال: إنه يفرح هذا الفرح، ومع ذلك يَصُدُّه عنها؟ فمحالٌ عقلًا ودينًا أن يُصَدَّ مثل هذا عن التوبة، وإذا قيل له: (ما لك إلا العشرون ريالًا)، ترك التوبة، يعني: من أغنى الناس إلى أفقر الناس، هذا ما يحتمله أحد. والله -جل وعلا- يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، فهذا المترجِّح عندي.
وقال بعضهم: إن مثل هذا القول يجعل الإنسان يستمر يُرابي، ثم يتوب فيما بعد، لكن مَن يضمن له أن يُوفَّق لتوبةٍ نصوحٍ مقبولة؟ ولو قيل بمثل هذا الكلام لسرى هذا على جميع الذنوب، وقيل: الزاني سيستمر يزني ثم يتوب، وهذا مثله، والسارق سيستمر في السرقة ثم يتوب، وهذا مثله، فهل مثل هذا يُشجِّع على الاستمرار؟ لا، مَن يضمن له أن يتوب توبة نصوحًا، هذا لا يُضمن له.
على كل حال إذا جاءه موعظة من ربه فانتهى، فله ما سلف، وعنده أموال ربوية -مثلما ذكر السائل- فلا يجوز له أن يصرفها في المصارف الطيبة، بل عليه أن يصرفها في المصارف الخبيثة، وجاء في كسب الحجام مع أن النبي -عليه الصلاة والسلام- «احتجم وأعطى الحجَّام أَجره» [البخاري: 2103]، ولو كان حرامًا ما أعطاه أُجرةً، ومع ذلك قال: «كسب الحجَّام خبيث» [مسلم: 1568]، ثم قال: «اعْلِفه ناضِحك» [أبو داود: 3422] يعني: أعطه الدواب تأكله، فمثل أموال الربا يُنشأ بها ويُصان بها دورات مياه، ومجاري الصرف الصحي، مال خبيث يُصرف في خبيث، لا بأس، وكذلك أعلاف الدواب، لا بأس، «اعْلِفه ناضِحَك».
وشخص لمَّا سمع هذا الكلام يقول: (المال الخبيث دعه للبنزين وغيار الزيت...، مثل إطعام الناضح)! والله المستعان.
على كل حال التحايل في مثل هذه الأمور الله -جل وعلا- يعلم السرَّ وأخفى، فعلى الإنسان أن يصدق في توبته؛ لتُبدَّل سيئاته حسنات، ولنفترض أن شخصًا يعمل في الربا سبعين سنة، ثم تاب توبة نصوحًا، فكل هذه السبعين السنة حسنات، بوعد مَن لا يُخلِف الميعاد، وكل هذا ترغيب في التوبة، وجاء هذا في الشرك، وجاء هذا في الزنا، وجاء هذا في القتل، أعظم الجرائم، {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]، قد يقول قائل: هما أخوان، واحد عمره سبعون سنة، وواحد خمس وسبعون سنة، ومنذ أن بلغا وواحد منهما في الطاعات والعبادات والنفع الخاص والعام، والثاني في الجرائم والمعاصي والمخدرات والسرقات والفواحش وغيرها، ثم تاب هذا يوم بلغ سبعين سنة أو أكثر من سبعين سنة، فهذا تاب، والآخر من الأصل ما قارف منكرات، هل يستويان؟ المُجرِم هذا بدَّل الله -جل وعلا- سيئاته حسنات، وذاك من الأصل يُكتب له حسنات منذ أن كُلِّف، فهل هما في الأجر سواء؟ يعني: هل منـزلتهما عند الله واحدة؟ لا، لا يستويان؛ لأن حسنات المطيع مضاعفة، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وجاء في خبر فيه كلام لأهل العلم عند أحمد «إن الله ليُضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة» [مسند أحمد: 7945]، لكن الخبر فيه ضعف. على كل حال هذا حسناته مضاعفة، وأما الحسنات المنقلِبة عن سيئات فالبدل له حكم المُبدَل، والسيئات ما تضاعف، إذن هذه الحسنات لا تُضاعف، ويظهر الفرق بين الاثنين حينئذٍ.