في قوله -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] هذا فيه تسلية للمسلمين، وأنهم لم يُخصُّوا بهذا العمل الذي فيه نوع مشقة، وإنما هو كما هو مكتوب عليهم كُتب على مَن قبلهم، وفيه أيضًا استكمال ما كُتب على الأمم السابقة من الأجور؛ لئلا يُظن أنهم أفضل منا، فقد كُتب علينا كما كُتب عليهم في هذا الباب، وأُمتنا هي خير أمة أُخرجتْ للناس، فلا تكون الأمم السابقة مفضَّلة عليها بشيء، ففي هذا استكمال فضائل الأمم السابقة؛ لأن هذه الأمة كمُلتْ فكمَّلتْ فضائل الأمم السابقة فكمُل فضلُها، فكُتب علينا ما كُتِب عليهم، ولم يفضلونا بشيء، وزيد علينا ما زيد من أجل استكمال الفضائل التي لم تُكتب عليهم.
وأيضًا استمرار شرعية هذه العبادة يقتضي اطِّراد صلاحها، ووفرة ثوابها، وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة؛ كيلا يتميَّز بها مَن كان قبلهم، وقلنا: اطِّراد صلاحها؛ لأن بعض العبادات تصلح في وقت ولا تصلح في وقت، ولهذا شُرع النسخ؛ لأن هذه العبادة في وقت صلاحيتها شُرعتْ، ثم لمَّا انتهت الحكمة من مشروعيتها ووجد ما هو أصلح منها في الوقت الثاني أو في الظرف الثاني نُسختْ العبادة الأولى، ولهذا شُرع النسخ، فهذه العبادة مطَّردة، صلاحيتها لأول الزمان وآخر الزمان، فهي مشروعة على الأمم السابقة، وشُرعتْ على هذه الأمة؛ استكمالًا لهذه الصلاحية واستكمالًا أيضًا لهذا الأجر العظيم الذي رُتِّب على هذه العبادة التي جاء فيها: «الصوم لي وأنا أجزي به» [البخاري: 1894]، «كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به» [البخاري: 1904]، و«مَن صام يومًا في سبيل الله، بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا» [البخاري: 2840]، وهذا في الصيام المستحب، فكيف بالمفروض الذي جاء فيه من الأجر ما لا يعلمه إلا الله، «الصوم لي وأنا أجزي به»؟ والله أعلم.