((صوموا لرؤيته)) الخطاب للأمة، وإن كان في الأصل الخطاب لمن حضره -عليه الصلاة والسلام- لكن من غاب عنه في حكمه؛ لأن خطابه للواحد خطاب للجميع.
هنا مسألة وهي مسألة اختلاف المطالع، هل هذا الخطاب للأمة بكاملها؟ أو خطاب لمن تتصور رؤيته للهلال؟ بمعنى أنه لو رُئِيَ الهلال رآه مسلم في أقصى المشرق هل يلزم أهل المغرب الصيام وإن لم يروه؟ أو العكس؟ أو نقول: كل بلد، وكل إقليم له رؤيته؟ وهذه مسألة معروفة عند أهل العلم، مسألة اختلاف المطالع، والمطالع اختلافها معلوم بالضرورة حسًّا وعقلاً، لا شك أن الهلال يُرى في بلد، ولا يُرى في بلد آخر، يرى في إقليم ولا يرى في إقليم آخر، لكن هل هذا الاختلاف له أثر في الحكم؟ بمعنى أنه إذا رُئِيَ في الإقليم الفلاني يلزم الناس، يلزم الأمة كلها على وجه الأرض الصيام، وقد تمت رؤيته من قبل المسلمين، واللفظ يحتمل.
أو النص يتجه إلى من تمكنه الرؤية، واللفظ أيضاً يحتمل، وقع الخلاف بين علماء المسلمين في اعتبار اختلاف المطالع في ابتداء صوم شهر رمضان والفطر منه، وعدم اعتباره، وسبب ذلك، سبب الخلاف أولاً: اختلاف المطالع معروف، معلوم بالضرورة حسًّا وعقلاً، معروف أن الهلال لا يرى في الدنيا كلها، المطالع مختلفة، لكن هل لهذا الاختلاف أثر في الحكم الشرعي؟
العلماء يقولون: هذه المسألة من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال، والخلاف فيها سائغ، لماذا؟ لأن لفظ الحديث: ((صوموا لرؤيته)) يحتمل، ((صوموا)) أيها المسلمون كلكم لرؤية الهلال، وأفطروا لرؤيته، وعلى هذا إذا رُئِيَ الهلال، على هذا الفهم إذا رئي الهلال في أي قطر من أقطار المسلمين فإنه يلزم المسلمين الصوم في جميع أقطار الأرض.
والاحتمال الثاني أنه ممن تمكنه الرؤية وتتصور له الرؤية، على كل حال هذه المسألة من المسائل النظرية التي فيها مجال للاجتهاد والخلاف فيها سائغ؛ لأن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((صوموا لرؤيته)) يحتمل الأمرين: أن يكون خطاباً لجميع الأمة بكمالها، وأن يكون خطاباً لمن تمكنه الرؤية.
والعلماء اختلفوا في هذه المسألة قديماً وحديثاً على قولين: فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع، وقال: لكل أهل بلد رؤيتهم، ومنهم من لم يعتبر ذلك، فإذا رأى الهلال المسلم العدل في أي بلد من بلدان المسلمين لزم الناس، أو لزم المسلمين كلهم الصوم، بعدوا أو قربوا، واستدل الفريقان بالنص الواحد، الفريقان استدلوا بالنص الواحد: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)) كما استدلوا بقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [(185) سورة البقرة]، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [(189) سورة البقرة]، والهلال واحد.
مجلس الهيئة، هيئة كبار العلماء في هذه البلاد يرون أن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المذكورين، يعني إذا ترجح لدى علماء هذه البلاد مثلاً القول الأول لهم أن يعملوا به، وإذا ترجح لديهم القول الثاني عملوا به، وهكذا في سائر البلدان على ما يترجح عندهم؛ لأن المسألة اجتهادية.
يقول: إذ لكل منهما أدلته ومستنداته والخلاف في هذه المسألة ليست لها آثار تخشى عواقبها، فقد مضى على ظهور هذا الدين أربعة عشر قرناً، لا يعلم فيها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإسلامية على رؤية واحدة، ولا شك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)) لم يقصد أهل المدينة فقط، وإنما قصد عموم المسلمين، كما أنه لم يقصد بالضرورة مخاطبة كل شخص بعينه، هذا ضرورة، ((صوموا لرؤيته))، هل المقصود كل شخص يصوم لرؤيته؟ لرؤية نفسه، هذا بالضرورة، معروف أن هذا ليس المقصود، وأيضاً أهل المدينة وإن كان الخطاب متجهاً لهم؛ لأنهم هم الذين يوجه لهم الخطاب، فالخطاب من شرطه أن يكون لحاضر وفي حكمه الغائب.
من الأدلة التي يحتج بها من قال باختلاف المطالع، أو باختلاف الرؤية تبعاً لاختلاف المطالع ما رواه مسلم عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: "فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل عليَّ رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
فهذا يدل على أن ابن عباس -رضي الله عنهما- يرى أن الرؤية لا تعم، وأن لكل أهل بلد رؤيتهم، إذا اختلفت المطالع، وقالوا: إن المطالع في منطقة المدينة غير متحدة مع المطالع في الشام، وقال آخرون: لعله لم يعمل برؤية أهل الشام؛ لأنه لم يشهد بها عنده إلا كريب وحده، والشاهد الواحد لا يعمل بشهادته في الخروج، وإنما يعمل بها في الدخول، وفيه نظر.
الآن الشهادة التي أدلى بها كريب عند ابن عباس، في أول الشهر أو في آخره؟ في آخر الشهر، لكن هذا الكلام مبني على الرؤية التي حصلت في أول الشهر، مبني على الرؤية التي حصلت في أول الشهر.
ننظر إلى قول هؤلاء، وقال آخرون: لعله لم يعمل برؤية أهل الشام؛ لأنه لم يشهد بها عنده إلا كريب وحده، والشاهد الواحد لا يعمل بشهادته في الخروج، وإنما يعمل بها في الدخول، وفيه نظر؛ لأن كريباً شهد أنه رآه في الدخول لا في الخروج، والخروج تابع للدخول، ففيه دلالة قوية على نسبة القول بالعمل باختلاف المطالع، لا سيما وقد نسبه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن ابن عباس يقول: هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وعلى كل حال المسألة فيها شيء من السعة، وإن كان القول باختلاف الرؤية تبعاً لاختلاف المطالع هو القول المتجه.