جرى الصدر الأول على أنه إذا سأل الواحد منهم قال: هل وقعت هذه المسألة أو ما وقعت؟ فإن قال: واقعة؛ اجتهد أو دفع السؤال إلى غيره، وإن كانت المسألة غير واقعة؛ قال: اذهب حتى تقع، ثم بعد ذلك نتكلف لك الجواب، نتجشم لك الجواب. والآن نسمع من يُسأل فلا نسمع في كلامه: "الله أعلم"، بل نسمع بعض من يجيب قبل أن يتم السؤال، وقد يقع خلل في الجواب بسبب ذلك. وكثيرًا ما يُسأل النبي -عليه الصلاة والسلام- فيسكت، وقد يكون من فوائد هذا السكوت تربية لمن يتولى الأمر بعده بالتوقيع عن الله -جل وعلا- أن يتريث ويسكت ويتأمل السؤال، وينظر في الجواب ويستفهم، ويستفصل من السائل، ليكون الجواب مطابقًا للسؤال.
فكثرة المسائل -التي فيها تشقيق، وإبعاد في النظر، وإبعاد عن الواقع- مذمومة، وإن كانت يقصد منها التفقه، فتشقيق المسائل عند سلف هذه الأمة ممنوع، ولذا تجدون كلامهم قليلاً جدًّا وبركته كثيرة، وبيّن ذلك ابن رجب -رحمه الله- في فضل علم السلف على الخلف، وقال: إن علمهم وكلامهم قليل، لكنه مبارك، وتجد الواحد في العصور المتأخرة يتكلم على المسألة في مجلد يمكن تلخيصه كله بجملة، أو سطر، أو سطرين، أو ما أشبه ذلك. وأُلف كتب يسمونها "كتب فكرية"، كتاب كامل يدور حول فكرة واحدة يمكن الإفصاح عنها بجملة تعوق عن تحصيل العلم، وإن استفاد منها القارئ كثرة كلام وإنشاء واستطاعة في التحدث في كل مجال يريده سواء كان يأوي إلى دليل، أو لا يأوي إلى دليل، المقصود أن مثل هذا لا يفيد طالب العلم شيئًا، فكل خير في اتباع من سلف.
ولذا يقول الحافظ بن رجب -رحمه الله تعالى- في فضل علم السلف: إن من فضَّل عالمًا على آخر بكثرة كلامه فقد أزرى بسلف هذه الأمة، وكانوا مما يكرهونه تشقيق المسائل، وكانوا يرون أن الشخص المتحري لألفاظه -الذي ألفاظه قليلة ويتحرى فيها- هذا هو الذي يوفَّق في الغالب للإصابة، بخلاف من كثر كلامه، وفي المثل: "من كثر كلامه كثر سقطه وزلَلُه".